صدرتْ طبعةٌ جديدة من يوميات الشاعر الأميركي وولت ويتمان بعنوان “أيام العيّنة والجمع”، وجاء الكتاب في ٤٥٤ صفحة من القطع المتوسط بمقدمة للناقدة ليزلي جاميسون، وكان الكتاب قد صدر في طبعته الأولى سنة ١٨٨٢، وهذه الطبعة الجديدة (دار ميلفل للنشر، نوفمبر، ٢٠١٤) تلقي الضوء من جديد على آراء مثيرة لشاعر إشكالي أثار جدلاً واسعاً في أميركا منذ أن طبع ديوانه “أوراق العشب” لأول مرة على نفقته الخاصة في مطبعة محلية، وواصل باستمرار، في مجرى حياته، مراجعة الديوان، ونشره في تسع طبعات مختلفة.
حين صدر ديوان “أوراق العشب” أول مرة شنّ عليه النقاد “الأخلاقيون” نقداً لاذعاً بسبب صراحته الجنسية وأسلوبه الشعري الحر، وكان من بين أبرز المدافعين عنه رالف والدو إمرسون الذي مدح الكتاب بأنه يعكس فرادة وتميزاً مضيفاً في رسالة إلى ويتمان أن شعره يجسد صوتاً أميركياً خاصاً ويبشّر بموهبة حقيقية.
تقول الناقدة ويزلي في مقدمتها إن ويتمان اختار كلمة “عيّنة” لعنوان كتابه لكن فكرة العيّنة بالنسبة له لم تكن عيادية أو تشريحية بل طريقة للاحتفاء، فالعيّنات بالنسبة لويتمان هي نماذج الجمال والشجاعة والبطولة، وتعكس جمال العالم في تدفقه وتغيره وتحوله، ويجب الاحتفاء بها وبوجودها الذي لا يتوقف عن التكرر، وقد كان يبحث في جميع الأمكنة عن الجميلين والشجعان والمتألقين كي يمدحهم. غير أن للحرب عيّناتها أيضاً وهي الجرحى المكوّمون في المستشفيات بلا أمل. أما كلمة الجمع أو التراكم فهي تعكس حلمه بالقصيدة الكلية الشاملة التي تجمع كل عناصر العالم وشظاياه. إن عنوان اليوميات يضيء، بطريقة ما، نظرة ويتمان إلى الشعر فهناك النماذج والعيّنات المتناثرة في العالم وهناك الرغبة الفنية في جمع هذه الشظايا والعيّنات في كل شعري واحد. ويبدو الكتاب كأنه يضم بين دفتيه شظايا من القطع والمقالات القصيرة والردود والمقدمات لطبعات ديوانه لا جامع بينها، وقد انتبه ويتمان إلى هذه المسألة وقال إنه سيقدّم كتاباً عفوياً، متشظياً، ويخلو من التركيز ليكون أول كتاب تلقائي غير مدروس سبق أن طُبع. إلا أن هناك خيطاً واضحاً يجمع الشظايا والشذرات كلها وهو خيط الرؤية الخاصة لدى ويتمان، رؤية الشاعر “الراسي بقوة في الآن الأبدي، وفي التدفّق”، كما وصفه هنري ميلر.
ينقسم الكتاب إلى قسمين، القسم الأول هو رحلة ويتمان إلى واشنطن إلى ساحات الوغى بحثاً عن أخيه بعد أن سمع بورود اسمه في قوائم الضحايا والمصابين في الحرب. وحين وصل إلى فريدريكسبرغ واكتشف أن إصابة شقيقه طفيفة قرّر ويتمان البقاء وعمل كممرّض يداوي الجرحى ويخيط جراحهم ويواسيهم ويطعمهم ويسقيهم ويكتب رسائل إلى عائلاتهم وإلى عائلات الجنود المفقودين والموتى، وفي سياق هذا العمل كان المتعاطف والشاهد والمجرّب لكنه اكتشف أيضاً عبث مسعاه وقال إن جميع أنواع المساعدة التي يقدمها للمصابين وكل ما يكتبه عن الضحايا لا ينفعهم في شيء لكن جثث الضحايا ستظل تشكل هوية الأمة وذلك لأن ذرات القتلى ستواصل رحلتها في التربة وما ينمو فيها.
يصوّر ويتمان بشاعة الحرب وتدميرها لكل ما هو إنساني وحضاري مشيراً إلى أن الحرب ستبقى عصية على التصوير والتدوين في كلمات، فالحرب الحقيقية لن تدخل أبداً إلى الكتب: “ليست الحرب رقصة رباعية في صالة. ولن يُدَوَّن تاريخها الحقيقي أبداً، وحتى لن تتم الإشارة إلى بعدها العملي وتفصيلاتها من الأفعال والأهوال”.
لا يقتصر الجزء الأول على تصوير أهوال الحرب وعذابات الجرحى في المستشفيات ومشاهد المبتورين والقتلى المرميين المتروكين على الأرض، بل ينتقل بنا إلى جماليات الطبيعة وسحر مشاهدها، كما لو أن ويتمان يستشعر انفصالاً مقصوداً عن عالم الطبيعة يحجّم الحياة في أميركا ويختزلها إلى بعد صناعي وتجاري يهيمن عليه الربح وضجيج الآلات، فهو يرى أنه من الضروري تلقيح الحياة والشعر وحتى الديمقراطية الأميركية بضوء الطبيعة وجمالها من أجل إنقاذ ما يمكن أن يجعل الحياة أكثر غنى. ويضمّن ويتمان في كتابه مقاطع يصف فيها المشاهد الطبيعية ففي “النبع والجدول”، يتحدث عن جدول مياه عذبة تحت أشجار الصفصاف “تتقوس ضفته كحاجب كث”، ويُخيَّل للشاعر أن العطر البري ورقش ظلال الأوراق، “وكل التأثيرات الطبيعية ـ الطبية والعناصرية ـ الأخلاقية للمكان” تنمو في داخله. وفي نص آخر بعنوان “طيور تهاجر في منتصف الليل”، يتحدث عن سماع صوت تحليق الطيور المهاجرة في منتصف الليل، هذا الصوت الساحر الذي لا يُنسى. وفي مقاطع وشذرات كهذه يؤكد ويتمان على أهمية الصلة بين الإنسان والطبيعة وكيف أن علاقته مع السماء والأرض تصبح جزءاً من غذائه اليومي بالمعنى الذي قصده إمرسون، الذي يقول إنه في حضور الطبيعة تسري متعة هائلة في أوصال الإنسان، رغم الأسى والألم. وقوة النشوة لا تأتي من الطبيعة فحسب بل أيضاً من الإنسان، ومن الانسجام بين الاثنين.
يحتوي الجزء الثاني من الكتاب، والذي بعنوان “الجمع” على مقالته “فسحات ديمقراطية” ومقالات أخرى منها “الشعر في أميركا اليوم - شكسبير - المستقبل”، والتي يصف فيها الثقافة في أميركا بأنها جسم كبير بروح صغيرة ويتحدث عن شعر المستقبل الذي يعرّفه بأنه التعبير الحر عن العواطف، وأنه الشعر الذي يثير ويفتتح وليس الشعر الذي يعرّف ويُكْمل. ويتحدث فيه عن أميركا وأدبها وحياتها السياسية، ويصعّد في هذا القسم نقده قائلاً إن الولايات المتحدة بلا روح ومنافقة وتفتقر للصدق ويسود الانحطاط والفساد فيها على كل المستويات الرسمية والتجارية، لكن الشعب العامل في المعسكرات والمخيمات وفي كل مكان يحتوي على بذور العظمة وكل ما يحتاج إليه هو مصلحون حقيقيون كي تتجسد هذه العظمة. ويشنُّ ويتمان هجوماً لاذعاً على الأدب الأميركي ويصفه بانعدام الأهمية، كما يوجه سهام نقده إلى شكسبير معتبراً أنه شاعر بلاط ولوردات وليس شاعرَ الناس.
حاول ويتمان في القطع والشذرات والفقرات والمقالات القصيرة والطويلة والمقاطع النثرية التي تتألف منها يومياته أن ينسج أسطورة حياته بطريقة تجعلها جزءاً من سيرورة جماعية وبيئية وهو في هذا، وبحسب النقاد الذين تناولوا كتابه، يختلف عن كثير من كتاب السير الاعترافية الأوروبيين أو الأميركيين، ويتجلى هذا أكثر في تشديده على اعتماد هويته الفردية على الهوية الجمعية و في وضعه لتاريخ أسرته الخاص في سياق التاريخ العام للأمة الأميركية.
أشارت الناقدة ليزلي جاميسون إلى أنّ شعره ليس شعر الاختيار بين شيء وآخر، بل إنه شعر الضم والمراكمة. ولم تفت هنري ميلر الإشارة في كتابه “الكتب في حياتي” إلى هذه الأمور لدى ويتمان، فويتمان، كما يراه ميلر، “لاشخصاني، يهتم بالجماهير، بالحشود الضخمة للبشرية. عيناه مثبّتتان باستمرار على الطاقة الكامنة المقدسة داخل الإنسان. ويمتلك ويتمان مَلكَة النظر إلى كل شيء، سواء كان إلهياً أم شيطانياً، كجزء من النهر الهيراقليطيسي الذي لا يتوقف، والذي لا نهاية، ولا بداية له. ثمة ريح مهيبة وعنيفة تهب عبر قصائده. وهناك صفة مخلّصة في رؤيته”. وهذا ما دفع خورخي بورخس إلى القول في كتابه الصادر حديثاً بالإنكليزية بعنوان “مقالات مختارة” إن لغة ويتمان لغة معاصرة وستمرّ مئات السنين قبل أن تصبح لغة ميتة.
في الكتاب أيضاً كتابات عن أسفار ويتمان في داخل أميركا حيث يصف بوسطن ووادي الهدسون ونزهته عبر سنترال بارك، وزياراته لشلالات نياغارا، ومدينة دنفر ويتحدث عن تغريد الطيور والأزهار البرية والصداقة والحرية وانطباعاته عن موسيقا بيتهوفن وزيارته الأخيرة لإمرسون ووفاة لنكولن ولونجفلو وسيرورة الشيخوخة المؤلمة.
الكتاب مرآة لحياة ويتمان الغنية بكل ما فيها من أفراح ومآس ولقاءات ووداعات، وهو أيضاً مدخل لفهم أميركا في زمن ويتمان، القارة التي كانت في طور التشكل، وهو يساعد القراء في تكوين فكرة أشمل عن شاعر تجاوز في غنى تجربة الحياة الواقعية التي عاشها أيَّ رجل سبق أن وُجد، بحسب الروائي دي. إتش. لورنس.